فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ}
قال الكلبي: كان الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به بنوه وزوجته فقالوا: أنت تذهب وتذرنا ضائعين فمنهم من يطيع أهله ويقيم فحذرهم الله طاعة نسائهم وأولادهم، ومنهم من لا يطيع ويقول: أما والله لو لم نهاجر ويجمع الله بيننا وبينكم في دار الهجرة لا ننفعكم شيئا أبدا، فلما جمع الله بينهم أمرهم أن ينفقوا ويحسنوا ويتفضلوا، وقال مسلم الخراساني: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان أهله وولده يثبطونه عن الهجرة والجهاد، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم فهو قوله: عدوا لكم فاحذروهم أن تطيعوا وتدعوا الهجرة، وقوله تعالى: {وإِن تعْفُواْ وتصْفحُواْ} قال هو أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوا بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وولده الذين منعوه الهجرة وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، ولم يصبهم بخير فنزل: {وإِن تعْفُواْ وتصْفحُواْ وتغْفِرُواْ} الآية، يعني أن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم، ينهون عن الإسلام ويثبطون عنه وهم من الكفار فاحذروهم، فظهر أن هذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإيمان، ولا تكون بين المؤمنين فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدوا لهم، وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا عن الهجرة نزل: {إِنّما أموالكم وأولادكم فِتْنةٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تطيعوهم في معصية الله تعالى وفتنة أي بلاء وشغل عن الآخرة، وقيل: أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جميع ما يقع بهم في الفتنة وهذا عام يعم جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله، كغصب مال الغير وغيره: {والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ} أي جزيل، وهو الجنة أخبر أن عنده أجرا عظيما ليتحملوا المؤونة العظيمة.
والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم.
وقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} قال مقاتل: أي ما أطقتم يجتهد المؤمن في تقوى الله ما استطاع، قال قتادة: نسخت هذه الآية قوله تعالى: {اتقوا الله حقّ تُقاتِهِ} [آل عمران: 102] ومنهم من طعن فيه وقال: لا يصح لأن قوله تعالى: {اتقوا الله حقّ تُقاتِهِ} لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لأنه فوق الطاقة والاستطاعة، وقوله: {اسمعوا} أي لله ولرسوله ولكتابه وقيل: لما أمركم الله ورسوله به {وأطِيعُواْ} الله فيما يأمركم {وأنْفِقُواْ} من أموالكم في حق الله خيرا لأنفسكم، والنصب بقوله: {وأنْفِقُواْ} كأنه قيل: وقدموا خيرا لأنفسكم، وهو كقوله: {فآمنوا خيرا لكم} [النساء: 170] وقوله تعالى: {ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ} الشح هو البخل، وإنه يعم المال وغيره، يقال: فلان شحيح بالمال وشحيح بالجاه وشحيح بالمعروف، وقيل: يوق ظلم نفسه فالشح هو الظلم، ومن كان بمعزل عن الشح فذلك من أهل الفلاح فإن قيل: {إِنّما أموالكم وأولادكم فِتْنةٌ}، يدل على أن الأموال والأولاد كلها من الأعداء و{إِنّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عدُوّا لّكُمْ} يدل على أن بعضهم من الأعداء دون البعض، فنقول: هذا في حيز المنع فإنه لا يلزم أن يكون البعض من المجموع الذي مر ذكره من الأولاد يعني من الأولاد من يمنع ومنهم من لا يمنع، فيكون البعض منهم عدوا دون البعض.
{إِنْ تُقْرِضُوا الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ ويغْفِرْ لكُمْ والله شكُورٌ حلِيمٌ (17)}
اعلم أن قوله: {إِن تُقْرِضُواْ الله قرْضا حسنا} أي إن تنفقوا في طاعة الله متقاربين إليه يجزكم بالضعف لما أنه شكور يحب المتقربين إلى حضرته حليم لا يعجل بالعقوبة غفور يغفر لكم، والقرض الحسن عند بعضهم هو التصدق من الحلال، وقيل: هو التصدق بطيبة نفسه، والقرض هو الذي يرجى مثله وهو الثواب مثل الإنفاق في سبيل الله، وقال في (الكشاف): ذكر القرض تلطف في الاستدعاء وقوله: {يضاعفه لكُمْ} أي يكتب لكم بالواحدة عشرة وسبعمائة إلى ما شاء من الزيادة وقرئ {يضعفه}.
{شكُورٍ} مجاز أي يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب وكذلك {حليم} يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء فلا يعاجلكم بالعذاب مع كثرة ذنوبكم، ثم لقائل أن يقول: هذه الأفعال مفتقرة إلى العلم والقدرة، والله تعالى ذكر العلم دون القدرة فقال: {عالم الغيب}، فنقول قوله: {العزيز} يدل على القدرة من عز إذا غلب و{الحكيم} على الحكمة، وقيل: {العزيز} الذي لا يعجزه شيء، و{الحكيم} الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، والله تعالى كذلك فيكون عالما قادرا حكيما جل ثناؤه وعظم كبرياؤه، والله أعلم بالصواب.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم...} إلى آخر السورة.
قرأن مدني، اختلف الناس في سببه، فقال عطاء بن أبي رباح: إنه نزل في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أراد غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وتشكوا إليه فراقه، فرق ولم يغز، ثم إنه ندم وهم بمعاقبتهم، فنزلت الآية بسببه محذرة من الأزواج والأولاد وفتنتهم، ثم صرفه تعالى عن معاقبتهم بقوله: {وإن تعفوا وتصفحوا} وقال بعض المفسرين سبب الآية: إن قوما آمنوا بالله وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة فلم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم، ثم أخبر تعالى أن الأموال والأولاد {فتنة} تشغل المرء عن مراشده وتحمله من الرغبة في الدنيا على ما لا يحمده في آخرته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الولد مجبنة مبخلة».
وخرج أبو داود حديثا في مصنفه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يخطب يوم الجمعة على المنبر حتى جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يجرانهما يعثران ويقومان، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى أخذهما وصعد بهما، ثم قرأ: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} الآية، وقال إني رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته».
قال القاضي أبو محمد: وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء، فأما فتنة الجهال والفسقة، فمؤدية إلى كل فعل مهلك، وقال ابن مسعود: لا يقول أحدكم اللهم اعصمني عن الفتنة فإنه ليس يرجع أحد إلى أهل ومال إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال عمر لحذيفة: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أحب ولدي وأكره الموت. وقوله تعالى: {والله عنده أجر عظيم} تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
{فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ واسْمعُوا وأطِيعُوا وأنْفِقُوا خيْرا لِأنْفُسِكُمْ}
قال قتادة وفريق من الناس: إن قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} ناسخ لقوله: {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102]، وروي أن الأمر بحق التقاة نزل، فشق ذلك على الناس حتى نزل: {ما استطعتم}، وذهبت فرقة منهم أبو جعفر النحاس إلى أنه لا نسخ في الآيتين، وأن قوله: {حق تقاته} [آل عمران: 102] مقصده (فيما استطعتم)، ولا يعقل أن يطيع أحد فوق طاقته واستطاعته، فهذه على هذا التأويل مبينة لتلك، وتحتمل هذه الآية أن يكون: {فاتقوا الله} مدة استطاعتكم التقوى، وتكون: {ما} ظرفا للزمان كله كأنه يقول: حياتكم وما دام العمل ممكنا، وقوله: {خيرا} ذهب بعض النحاة إلى أنه نصب على الحال وفي ذلك ضعف، وذهب آخرون منهم إلى أنه نصب بقوله: {وأنفقوا} قالوا والخبر هنا: المال، وذهب فريق منهم إلى أنه نعت لمصدر محذوف، تقديره: إنفاقا {خيرا}، ومذهب سيبويه: أنه نصب بإضمار فعل يدل عليه {أنفقوا}.
وقرأ أبو حيوة: {يوقّ} بفتح الواو وشد القاف، وقرأ أبو عمرو {شِح} بكسر الشين، وقد تقدم القول في {شح} النفس ما هو في سورة الحشر. وقال الحسن: نظرك لامرأة لا تملكها شح، وقيل: يا رسول الله: ما يدخل العبد النار؟ قال: «شح مطاع، وهوى متبع، وجبن هالع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك».
وقرأ جمهور السبعة: {تضاعفه} وقرأ ابن كثير وابن عامر: {يضاعفه}، وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحض هو على أداء الزكاة المفروضة، وذهب آخرون منهم إلى أن الآية، في المندوب إليه وهو الأصح إن شاء الله.
وقوله تعالى: {والله شكور} إخبار بمجرد شكره تعالى على الشيء اليسير، وأنه قد يحط به عن من يشاء الحوب العظيم لا رب غيره. اهـ.

.قال القرطبي:

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم} قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة في عوْف بن مالك الأشْجعِيّ؛ شكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم جفاء أهلِه وولدِه؛ فنزلت.
ذكره النحاس.
وحكاه الطّبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة (التغابن) كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ} نزلت في عوْف بن مالك الأشْجعِيّ كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزْو بكوْا إليه ورقّقوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرِقّ فيُقيم؛ فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ} الآية كلها بالمدينة في عوْف بن مالك الأشجعي.
وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.
وروى الترمذي: عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم} قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم رأوُا الناس قد فقُهُوا في الدِّين همُّوا أن يعاقبوهم؛ فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم} الآية.
هذا حديث حسن صحيح.
الثانية: قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبيّن وجه العداوة، فإن العدوّ لم يكن عدوّا لذاته وإنما كان عدوّا بفعله.
فإذا فعل الزوج والولد فِعْل العدوّ كان عدُوا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتُنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتِل فحق على الله أن يدخله الجنة» وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما يكون بالوسوسة.
والثاني بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب، قال الله تعالى: {وقيّضْنا لهُمْ قُرناء فزيّنُواْ لهُم مّا بيْن أيْدِيهِمْ وما خلْفهُمْ} [فصلت: 25].
وفي حكمة عيسى عليه السلام: من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا.
وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعِس عبد الدينار تعِس عبد الدِّرْهم تعِس عبد الخميصة تعِس عبد القطيفة تعِس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش»
ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همّة أخسّ من همّة ترتفع بثوب جديد.
الثالثة: كما أن الرجل يكون له ولده وزوْجُه عدُوّا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوّا بهذا المعنى بعينه.
وعموم قوله: {مِنْ أزْواجِكُمْ} يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية.
والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى: {فاحذروهم} معناه على أنفسكم.
والحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، وإما لضرر في الدين.
وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة.
فحذّر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به.
الخامسة: قوله تعالى: {وإِن تعْفُواْ وتصْفحُواْ وتغْفِرُواْ فإِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ} روى الطّبري عن عِكْرمة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم} قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله: أين تذهب وتدعنا؟ قال: فإذا أسلم وفقُه قال: لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر، فلأفعلن ولأفعلن؛ قال: فأنزل الله عز وجل: {وإِن تعْفُواْ وتصْفحُواْ وتغْفِرُواْ فإِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ}.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم} قال: ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودّتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم.
والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد.
وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.
قوله تعالى: {إِنّمآ أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ} أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرّم ومنع حق الله تعالى؛ فلا تطيعوهم في معصية الله.
وفي الحديث: «يُؤْتى برجل يوم القيامة فيقال أكل عِيالُه حسناتِه» وعن بعض السلف: العيال سُوس الطاعات.
وقال القُتيبيّ: {فِتْنةٌ} أي إغرام؛ يقال: فُتِن الرجل بالمرأة أي شُغف بها.
وقيل {فِتْنةٌ} مِحنة.
ومنه قول الشاعر:
لقد فتن الناس في دينهم ** وخلّى ابن عفّان شرا طويلا

وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم اللهم اعْصِمْني من الفتنة؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة؛ ولكن ليقل: اللهمّ إني أعوذ بك من مُضِلاّت الفتن.
وقال الحسن في قوله تعالى: {إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ}: أدخل {من} للتبعيض؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء.
ولم يذكر {مِن} في قوله تعالى: {إِنّمآ أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما.
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بُريْدة عن أبيه قال: «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب؛ فجاء الحسن والحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران؛ فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة؛ نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.ثم أخذ في خطبته».
{والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ} يعني الجنة، فهي الغاية، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين.
وفي الصحيحين واللفظ للبخاريّ عن أبي سعيد الخُدْرِي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبّيْك ربّنا وسعْديْك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا ياربّ وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك فيقول أُحِلّ عليكم رِضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» وقد تقدم.
ولا شك في أن الرِّضا غاية الآمال.
وأنشد الصوفية في تحقيق ذلك:
امتحن الله به خلقهُ ** فالنار والجنة في قبضتهْ

فهجره أعظم من نارِه ** ووصْلُه أطْيبُ من جنّتهْ

قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطِيعُواْ وأنْفِقُواْ خيْرا لأنفُسِكُمْ} فيه خمس مسائل:
الأولى: ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {اتقوا الله حقّ تُقاتِهِ} [آل عمران: 102] منهم قتادة والربيع بن أنس والسُّدّي وابن زيد.
ذكر الطّبري: وحدّثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنُواْ اتقوا الله حقّ تُقاتِهِ} قال: جاء أمر شديد، قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
وقيل: هي محكمة لا نسخ فيها.
وقال ابن عباس: قوله تعالى: {اتقوا الله حقّ تُقاتِهِ} إنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وقد تقدم.
الثانية: فإن قيل: فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة (التغابن): {فاتقوا الله ما استطعتم} وكيف يجوز اجتماع الأمر باتقاء الله حقّ تُقاته، والأمر باتقائه ما استطعنا.
والأمر باتقائه حقّ تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط، والأمر باتقائه ما استطعنا امرٌ باتقائه موصولا بشرط.
قيل له: قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} بمعزل مما دل عليه قوله تعالى: {اتقوا الله حقّ تُقاتِهِ} وإنما عنى بقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جُعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم، وتصدّكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام؛ فتتركوا الهجرة ما استطعتم؛ بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين.
وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: {إِنّ الذين توفّاهُمُ الملائكة ظالمي أنْفُسِهِمْ إلى قوله فأولئك عسى الله أن يعْفُو عنْهُمْ} [النساء: 97-99].
فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك؛ فكذلك معنى قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم.
ومما يدل على صحة هذا أن قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} عقيب قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم}.
ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخّروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك؛ حسب ما تقدم.
وهذا كله اختيار الطّبري.
وقيل: {فاتقوا الله ما استطعتم} فيما تطّوع به من نافلة أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى: {اتقوا الله حقّ تُقاتِهِ} اشتدّ على القوم فقاموا حتى ورِمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم: {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى؛ قاله ابن جُبير.
قال الماوردي: ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها.
الثالثة: قوله تعالى: {واسمعوا وأطِيعُواْ} أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتُنْهوْن عنه.
وقال مقاتل: {اسْمعُوا} أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله؛ وهو الأصل في السماع.
{وأطِيعُوا} لرسوله فيما أمركم أو نهاكم.
وقال قتادة: عليهما بويع النبيّ صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.
وقيل: {واسْمعُوا} أي اقبلوا ما تسمعون؛ وعبّر عنه بالسماع لأنه فائدته.
قلت: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبد الملك بن مروان فقال: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطِيعُواْ} هي لعبد الملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثْنوِيّة، والله لو أمرت رجلا أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحلّ لي دمه.
وكذب في تأويلها! بلى هي للنبيّ صلى الله عليه وسلم أوّلا ثم لأولي الأمر من بعده.
دليلهُ {وأطِيعُواْ الله وأطِيعُواْ الرسول وأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59].
الرابعة: قوله تعالى: {وأنْفِقُواْ} قيل: هو الزكاة؛ قاله ابن عباس.
وقيل: هو النفقة في النفْل.
وقال الضحاك: هو النفقة في الجهاد.
وقال الحسن: هو نفقة الرجل لنفسه.
قال ابن العربي: وإنما أوقع قائل هذا قوله: {لأنفُسِكُم} وخفِي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه؛ قال الله تعالى: {إِنْ أحْسنْتُمْ أحْسنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وإِنْ أسأْتُمْ فلها} [الإسراء: 7].
وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه.
والصحيح أنها عامة.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: عندي دينار؟ قال: «أنفقه على نفسك» قال: عندي آخر؟ قال: «أنفقه على عيالك» قال: عندي آخر؟ قال: «أنفقه على ولدك» قال: عندي آخر؟ قال: «تصدّق به» فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك.
وهو الأصل في الشرع.
الخامسة: قوله تعالى: {خيْرا لأنفُسِكُمْ} {خيْرا} نصب بفعل مضمر عند سيبويه؛ دلّ عليه {وأنْفِقُواْ}.
كأنه قال: ايتُوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم، أو قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم.
وهو عند الكسائي والفرّاء نعت لمصدر محذوف؛ أي أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم.
وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة؛ أي يكن خيرا لكم.
ومن جعل الخير المال فهو منصوب بـ: {أنفقوا}.
قوله تعالى: {ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} تقدم الكلام فيه.
وكذا {إِن تُقْرِضُواْ الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ} تقدم الكلام فيه أيضا في (البقرة) وسورة (الحديد).
{ويغْفِرْ لكُمْ والله شكُورٌ حلِيمٌ} تقدم معنى الشكر في (البقرة).
والحليم: الذي لا يعْجل.
قوله تعالى: {عالِمُ الغيب والشهادة} أي ما غاب وحضر.
وهو {العزيز} أي الغالب القاهر.
فهو من صفات الأفعال، ومنه قوله عز وجل: {تنزِيلُ الكتاب مِن الله العزيز الحكيم} [الجاثية: 2].
أي من الله القاهر المحكم خالق الأشياء.
وقال الخطّابي: وقد يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عزّ يعِزّ (بكسر العين) فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادله شيء وأنه لا مِثل له.
والله أعلم.
{الحكيم} في تدبير خلقه.
وقال ابن الأنباري: (الْحكيمُ) هو المحكم لخلق الأشياء، صُرف عن مُفْعِل إلى فعِيل، ومنه قوله عز وجل: {الر تِلْك آياتُ الكتاب الحكيم} [يونس: 1] معناه المُحْكم، فصُرف عن مُفْعل إلى فعِيل.
والله أعلم. اهـ.